فصل: تفسير الآيات رقم (18- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ يعني وهو الغالب لعباده القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته والقاهر والقهار معناه الذي يدبر خلقه بما يريد فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه فلا يستطيع أحد من خلقه رد تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره وهذا معنى القاهر في صفة الله تعالى لأنه القادر والقاهر الذي لا يعجزه شيء أراده ومعنى فوق عباده هنا أن قهره قد استعلى على خلقه فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه ولا ينفك عنه فكل من قهر شيئاً فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ معنى القاهر المتعبد خلقه العالي عليهم وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئاً أن يكون مستعلياً عليه فمعنى الكلام إذاً والله الغالب عباده المذلل لهم العالي عليهم بتذليله إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه‏.‏ وقيل‏:‏ فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الحكيم‏}‏ يعني في أمره وتدبير عباده ‏{‏الخبير‏}‏ يعني بأعمالهم وما يصلحهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة‏}‏ قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحداً يصدقك ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر فأنزل الله عز وجل قل يعني يا محمد لهؤلاء المشركين الذي يكذبونك ويجحدون نبوتك من قومك أي شيء أكبر شهادة يعني أعظم شهادة فإن هم أجابوك وإلا ‏{‏قل‏}‏ أنت يا محمد ‏{‏الله شهيد بيني وبينكم‏}‏ قال مجاهد أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل قريشاً أي شيء أكبر شهادة ثم أمره أن يخبرهم فيقول الله شهيد بيني وبينكم يعني يشهد لي بالحق وعليكم بالباطل الذي تقولونه والحاصل أنهم طلبوا شاهداً مقبول القول يشهد له بالنبوة فبيَّن الله تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ثم بيَّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به‏}‏ يعني أن الله عز وجل يشهد لي بالنبوة لأنه أوحى إليّ هذا القرآن وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته فكان معجزاً وإذا كان معجزاً كان نزوله على شهادة من الله بأني رسوله وهو المراد بقوله لأنذركم به يعني أوحي إلى هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن بلغ‏}‏ يعني وأنذر من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي صلى الله عليه وسلم نذير له قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال أنس بن مالك لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل ‏(‏خ‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

«بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»

‏(‏شرح ما يتعلق بهذا الحديث‏)‏

فيه الأمر بإبلاغ ما جاء به النبي صلى الله عيله وسلم إلى من بعده من قرآن وسنة وقوله وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج الحرج الضيق والإثم ومعنى الحديث أنه مهما قلتم عن بني إسرائيل فإنهم كانوا في حال أكثر مما قلتم وأوسع وليس هذا فيه إباحة الكذب والإخبار عن بني إسرائيل لكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على بعض البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل لأنه أمر قد تعذر لبعد المسافة وطول المدة عن ابن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله أمرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع» أخرجه الترمذي وله عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه» عن ابن عباس قال «تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منك» أخرجه أبو داود موقوفاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى‏}‏ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذي جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها وإنما قال أخرى لأن الجمع يلحقه التأنيث كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله الأسماء الحسنى‏}‏ ‏{‏فما بال القرون الأولى‏}‏ ولم يقل الأول ولا الأولين ‏{‏قل لا أشهد‏}‏ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أشهد بما تشهدون به أن مع الله آلهة أخرى بل أجحد ذلك وأنكره ‏{‏قل إنما هو إله واحد‏}‏ يعني قل لهم إنما الله إله واحد ومعبود واحد لا شريك له وبذلك أشهد ‏{‏وإنني برئ مما تشركون‏}‏ يعني أنا برئ من كل شيء تعبدونه سوى الله وفي هذه الآية دليل على إثبات التوحيد لله عز وجل وإبطال كل معبود سواه لأن كلمة إنما تفيد الحصر ولفظة الواحد صريح في التوحيد ونفي الشريك فثبت بذلك إيجاب التوحيد وسلب كل شريك والتبرؤ من كل معبود سوى الله تعالى قال العلماء يستحب لكل من أسلم أن يأتي بالشهادتين ويبرأ من كل دين خالف الإسلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنني برئ مما تشركون‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم‏}‏ المراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن كفّار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر وأنكروا معرفته بين الله عز وجل أن شهادته له كافية على صحة نبوته وبين في هذه الآية أنهم يعرفونه وأنهم كذبوا في قولهم إنهم لا يعرفونه‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر بن الخطاب‏:‏ إن الله عز وجل أنزل على نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بمكة ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم‏}‏ فكيف هذه المعرفة‏؟‏ فقال عبد الله بن سلام‏:‏ يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني فقال عمر وكيف ذاك‏؟‏ قال أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ولا أدري ما يصنع النساء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ يعني‏:‏ أهلكوا أنفسهم وغبنوها وأوبقوها في نار جهنم بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الذينه خسروا أنفسهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه صفة الذين الأولى ويكون المقصود من ذلك وعيد المعاندين الذين يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ويجحدون نبوته وهم كفار أهل الكتابين ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ يعني به‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إنه كلام مبتدأ ولا تعلق له بالأول وهم كفار مكة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكروا في معنى الخسار وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب كفرهم وإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار فذلك هو الخسران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ يعني ومن أشد عناداً وأخطأ فعلاً وأعظم كفراً ممن اختلق على الله كذباً فزعم أن له شريكاً من خلقه وإلهاً يعبد من دونه كما قال المشركون من عبدة الأصنام، أو ادعى أن له صاحبه وولداً كما قلت النصارى ‏{‏أو كذب بآياته‏}‏ يعني كذب بحجته وأعلام أدلته التي أعطاها رسله كما كذبت اليهود بمعجزات الأنبياء وقيل معناه أو كذب بآيات القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ يعني أنه لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون على الله الباطل ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً‏}‏ أي اذكر يوم نحشر العابدين والمعبودين وهو يوم القيامة ‏{‏ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون‏}‏ يعني أنها تشفع لكم عند ربكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ يعني قولهم وجوابهم وقال ابن عباس معذرتهم والفتنة التجربة، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل له فتنة قال الزجاج في قوله ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك أن الرجل يفتتن بمحبوب ثم تصيبه فيه محنة فيبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنته إلا بذلك المحبوب فكذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ثم لما رأوا العذاب تبرؤوا منها‏.‏ يقول الله تبارك وتعالى ثم لم تكن فتنتهم ومحبتهم للأصنام إلا أن تبرؤوا منها وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ وذلك إذا شاهدوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى لأهل التوحيد فيقول بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو من أهل التوحيد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ يعني انظر يا محمد بعين البصيرة والتأمل إلى حال هؤلاء المشركين كيف كذبوا على أنفسهم يعني اعتذارهم بالباطل وتبرؤهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم وهو قوله‏:‏ ‏{‏وضل عنهم‏}‏ يعني زال عنهم وذهب ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ يعني ما كانوا يكذبون وهو قولهم إن الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏ الآية‏.‏ قال الكلبي‏:‏ اجتمع أبو سفيان صخر بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا أبا قتيبة ما يقول محمد‏؟‏ قال‏:‏ ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية‏.‏ وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان‏:‏ إني لأرى بعض ما يقول حقاً‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ كلا لا تقر بشيء من هذا وفي رواية للموت أهون علينا من هذا فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏ يعني إلى كلامك وقراءتك يا محمد ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ يعني أغطية جمع كنان ‏{‏أن يفقهوه‏}‏ يعني لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه ‏{‏وفي آذانهم وقراً‏}‏ يعني وجعلنا في آذانهم صمماً وثقلاً وفي هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى والإيمان فتقبله ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن به‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ يعني‏:‏ كل معجزة من المعجزات الدالة على صدقك لا يؤمنوا بها يعني لا يصدقوا بها ولا يقروا أنها دالة على صدقك ‏{‏حتى إذا جاؤوك يجادلونك‏}‏ يعني أنهم إذا رأوا الآيات واستمعوا القرآن إنما جاؤوا ليجادلوك ويخاصموك لا ليؤمنوا بها ‏{‏يقول الذين كفروا إن هذا‏}‏ أي ما هذا القرآن ‏{‏إلا أساطير الأولين‏}‏ يعني أحاديث الأولين من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم‏.‏ وما سطروا‏:‏ يعني وما كتبوا والأساطير جمع أسطورة وأسطارة‏.‏ وقيل‏:‏ واحدها سطر وأسطار جمع وأساطير جمع الجمع فعلى هذا لو قال قائل‏:‏ لمَ عابوا القرآن وجعلوه أساطير الأولين وقد سطر الأولون في كتبهم الحكم والعلوم النافعة وما لا يعاب قائله‏؟‏ أجيب عنه‏:‏ بأنهم إنما نسبوا القرآن إلى أساطير الأولين بمعنى أنه ليس بوحي من الله تعالى وإنما هو أخبار مجردة كما تروى أخبار الأولين‏.‏ وقيل في معنى أساطير الأولين‏:‏ إنها الترهات وهي عند العرب طرق غامضة ومسالك وعرة مشكلة‏.‏ يقول قائلهم‏:‏ أخذنا في الترهات، بمعنى عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل الذي لا يعرض فجعلت الترهات مثلاُ لما لا يعرف ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهم ينهون عنه‏}‏ يعني ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وينأون عنه‏}‏ يعني ويتباعدون عنه بأنفسهم نزلت في كفار مكة كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن الاجتماع به وينهون عن استماع القرآن وكانوا هم كذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى المشركين عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعه منهم وينأى هو بنفسه عن الإيمان به بمعنى يبعد حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين وقالوا له خذ شاباً من أصبحنا وجهاً وادفع إلينا محمد‏.‏ فقال‏:‏ ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني محمداً لتقتلوه، وأربي لكم ابنكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا طالب إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذنب عنك ما حييت وقال في ذلك أبياتاً‏:‏

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقر منه عيونا

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يهلكون إلا أنفسهم‏}‏ يعني لا يرجع وبال كفرهم وفعلهم إلا عليهم ‏{‏وما يشعرون‏}‏ يعني بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ يعني في النار فوضع على موضع في‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏على ملك سليمان‏}‏ أي في ملك سليمان وقيل معناه إذ عرضوا على النار وجواب لو محذوف‏.‏ والمعنى‏:‏ ولو ترى الكفار الذين ينهون عنك وينأون عنك يا محمد في تلك الحالة لرأيت أمراً عجيباً وموقفاً فظيعاً ‏{‏فقالوا‏}‏ يعني الكفار ‏{‏يا ليتنا نردّ‏}‏ يعني إلى الدنيا ‏{‏ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏}‏ تمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى حتى يؤمنوا ولا يكذبوا بآيات ربهم فرد الله عليهم ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏}‏ يعني ليس الأمر كما قالوا لو ردوا إلى الدنيا لأمنوا بل ظهر لهم ما كانوا يسرون في الدنيا من الكفر والمعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ ظهر لهم ما كانوا يخفون من قولهم والله ربنا ما كنا مشركين أخفوا شركهم وكتموه فأظهره الله عليهم حين شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا من شركهم وقيل ظهر لهم ما أخفوا من الكفر فعلى هذا تكون الآية في المنافقين ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏}‏ يعني في قولهم لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏:‏ ‏{‏وقالوا إن هذه إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏ وهذا خبر عن حال منكري البعث وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخر الكفار عن أحوال القيامة وأهوالها وما أعد الله في الآخرة من الثواب للمؤمنين المطيعين وما أعد الله من العقاب للكفار والعاصين قالوا، يعني الكفار، إن هي أي ما هي إلا حياتنا الدنيا، أي، ليس لنا غير هذه الدنيا التي نحن فيها وما نحن بمبعوثين يعني بعد الموت‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هذا خبر من الله عن هؤلاء الكفار الذي وقفوا على النار أنهم لو ردوا إلى الدنيا لقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على ربهم‏}‏ يعني على حكم ربهم وقضائه ومسألته وقال مقاتل عرضوا على ربهم ‏{‏قال أليس هذا بالحق‏}‏ أي يقول الله يوم القيامة أليس هذا البعث والنشر بعد الموت الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وتكذبون به وتقولون لا بعث ولا نشور حقاً ‏{‏قالوا بلى وربنا‏}‏ يعني أنهم اعترفوا بما كانوا ينكرونه فأجابوا وقالوا بلى والله إنه لَحق‏.‏ وقيل‏:‏ تقول لهم خزنة لانار بأمر الله أليس هذا بالحق يعني البعث حقاً فأجابوا بقولهم بلى وربنا قال ابن عباس‏:‏ للقيامة مواقف ففي موقف ينكرون ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين وفي موقف يعترفون بما كانوا ينكرونه في الدنيا ‏{‏قال فذوقوا العذاب‏}‏ أي يقول الله لهم ذلك أو الخزنة تقول لهم ذلك بأمر الله تعالى‏.‏ وإنما خص لفظ الذوق، لأنهم في كل حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس ‏{‏بما كنتم تكفرون‏}‏ يعني هذا العذاب بسبب كفركم وجحودكم البعث بعد الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله‏}‏ يعني خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بالمصير إلى الله تعالى وبالبعث بعد الموت وهذا الخسران هو فوت الثواب العظيم في دار النعيم المقيم وحصول العذاب الأليم، في دركات الجحيم ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة‏}‏ يعني جاءتهم القيامة فجأة وسميت القيامة ساعة‏:‏ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تبارك وتعالى‏.‏ وقيل‏:‏ سميت ساعة لسرعة الحساب فيها لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة أو أقل من ذلك ‏{‏قالوا‏}‏ يعني منكري البعث وهم كفار قريش ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد ‏{‏يا حسرتنا‏}‏ يعني‏:‏ يا ندامتنا والحسرة التلهف على الشيء الفائت وذكرت على وجه النداء للمبالغة والمراد تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة ‏{‏على ما فرطنا‏}‏ يعني قصرنا ‏{‏فيها‏}‏ يعني في الدنيا لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة والمعنى يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها في دار الدنيا‏.‏ وقال محمد بن جرير الطبري‏:‏ الهاء والألف في قوله فيها تعود إلى الصفقة ولكن اكتفى بدلالة قوله قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله عليها من ذكرها إذ كان معلوماً أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرى ومعنى الآية قد وكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به رضوان الله وجنته بالكفر الذي يستوجبون به سخط الله وعقوبته وهم لا يشعرون بذلك حتى تقوم الساعة‏.‏

فإذا جاءتهم الساعة بغتة ورأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ‏:‏ يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وروى الطبرى بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله يا حسرتنا، قال‏:‏ «يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم‏}‏ يعني أثقالهم‏:‏ ‏{‏على ظهورهم‏}‏ والأوزار‏:‏ الخطايا والذنوب‏.‏ وأصل الوزر‏:‏ الثقل والحمل‏.‏ يقال‏:‏ وزرته إذا حملته وإنما قيل للذنوب أوزار، لأنها تثقل ظهر من يحملها‏.‏ قال قتادة والسدي‏:‏ إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً فيقول هل تعرفني‏؟‏ فيقول لا فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طالما ركبتك في الدنيا فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً‏}‏ يعني ركباناً‏.‏

وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول هل تعرفني‏؟‏ فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فذلك معنى قوله ‏{‏وهم يحملون أوزراهم على ظهورهم‏}‏‏.‏

وقال عمر بن هانئ‏:‏ يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح كلما رأى هو صورته وقبحه زاده الله خوفاً فيقول له بئس الجليس أنت فيقول أنا عملك طالما ركبتني فلأركبنك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الخلائق فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه تعالى فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ الثقل كما يذكر في الوزن فقد يذكر في الحال والصفة يقال ثقل علي كلام فلان بمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون من ألم عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل ذلك عليهم فعلى هذا القول يكون قوله ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏ مجازاً عما يقاسونه من شدة العذاب‏.‏ وقيل في معنى الآية‏:‏ أوزارهم لا تزايلهم كما تقول شخصه نصب عيني أي ذكره ملازم لي ‏{‏ألا ساء ما يزرون‏}‏ يعني بئس الشيء شيئاً يحملونه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ بئس الحمل حملوا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ أي باطل وغرور لا بقاء لها وهذا فيه رد على منكري البعث في قولهم ‏{‏إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏ فقال الله رداً عليهم وكذباً لهم ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ وهل المراد بهذه الحياة حياة المؤمن أو الكافر قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ إن المراد بها حياة الكافر لأن المؤمن لا يزداد بحياته في الدنيا إلا خيراً لأنه يحصل في أيام حياته من الأعمال الصالحة والطاعة، ما يكون سبباً لحصول السعادة في الآخرة؛ وأما الكافر فإن كل حياته في الدنيا وبال عليه قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر لأن الإنسان يلتذ باللعب واللهو ثم عند انقضائه تحصل له الحسرة والندامة لأن الذي كان فيه من اللعب واللهو سريع الزوال لا بقاء له فبان بهذا التقرير أن المراد بهذه الحياة حياة المؤمن والكافر وأنه عام فيهما‏.‏ وإنما شبه الحياة الدنيا باللعب واللهو لسرعة زوالها وقصر عمرها كالشيء الذي يُلعب به‏.‏

وقيل‏:‏ معناه إن أمر الدنيا والعمل لها لعب ولهو فأما فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة وإن كان وقوعه في الدنيا وقيل معناه وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لأنه لا يجدي شيئاً ولاشتغالهم عما أمروا به ونسبوا إلى اللعب وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللدار الآخرة‏}‏ يعني الجنة واللام فيه لام القسم تقديره والله لدار الآخرة ‏{‏خير‏}‏ يعني من الدنيا وأفضل لأن الدنيا سريعة الزوال والانقطاع ‏{‏للذين يتقون‏}‏ يعني الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ يتقون اللعب واللهو ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ إن الآخرة خير من الدنيا فيعملون لها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون‏}‏ يعني قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقوله المشركون لك، قال السدي‏:‏ التقى الأخنس بن شريق أبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل‏:‏ يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري‏؟‏ فقال أبو جهل‏:‏ والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية وقال ناجبة بن كعب‏:‏ قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

عن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي إنا لا نكذبك ولكنا نكذب بما جئت به فأنزل الله فيهم ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ أخرجه الترمذي من طريقين وقال في أحدهما وهذا أصح، ففي هذا الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهه به قومه لأنهم كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس بكذاب وإنما حملهم على تكذيبه على تكذيبه في الظاهر الحسد والظلم‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك‏}‏ يعني أنهم لا يكذبونك في السر، لأنهم قد عرفوا أنك صادق ‏{‏ولكن الظالمين‏}‏ يعني الكافرين ‏{‏بآيات الله يجحدون‏}‏ يعني في العلانية وذلك أنهم جحدوا القرآن بعد معرفة الصدق الذي أنزل عليه لعنادهم وكفرهم كما قال الله تعالى في حق غيرهم، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً‏.‏ وقيل‏:‏ ظاهر الآية يدل على أنهم لم يكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم وإنما جحدوا آيات الله وهي القرآن الدال على صدقه، فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ فإنهم لا يكذبونك لأنهم قد عرفوا صدقك وإنما جحدوا صحة نبوتك ورسالتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد كذبت رسل من قبلك‏}‏ يعني ولقد كذبت الأمم الخالية رسلهم كما كذبك قومك‏:‏ ‏{‏فصبروا على ما كذبوا وأوذوا‏}‏ يعني أن الرسل عليهم السلام صبروا على تكذيب قومهم إياهم وصبروا على أذاهم، فاصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك وأذاهم لك كما صبر مَن كان قبلك من الرسل وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وإزالة حزنه على تكذيب قومه له وأذاهم إياه ‏{‏حتى أتاهم نصرنا‏}‏ يعني بإهلاك من كذبهم ‏{‏ولا مبدل لكلمات الله‏}‏ يعني ولا ناقض لما حكم الله به من إهلاك المكذبين ونصر المسلمين كما قال ‏{‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لَهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون‏}‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏}‏ ولا خلف فيما وعد الله به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ يعني ولقد أنزلت عليك في القرآن من أخبار المرسلين ما فيه تسلية لك وتسكين لقلبك‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ من هنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره بل هي للتبعيض لأن الواصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص بعض الأنبياء وأخبارهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كان كبر عليك إعراضهم‏}‏ ذكر ابن الجوزي في سبب نزول هذه الآية‏:‏ أن الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال‏:‏ ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات فإن فعلت آمنا بك فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ وإن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك والإيمان بك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص وكان إذا سألوه آية أحب أن يريهم الله ذلك طعماً في إيمانهم فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن استطعت أن تبتغي‏}‏ يعني تطلب وتتخذ ‏{‏نفقاً في الأرض‏}‏ يني سرباً في الأرض والنفق سرب في الأرض تخلص منه إلى مكان آخر ‏{‏أو سلماً في السماء‏}‏ يعني‏:‏ أو تتخذ مصعداً إلى السماء والسلم المصعد وهو مشتق من السلامة ‏{‏فتأتيهم بآية‏}‏ يعني بالآية‏:‏ التي سألوا عنها‏.‏ ومعنى الآية وإن كان كبر وعظم عليك إعراض قومك عن الإيمان بك فإن قدرت أن تذهب في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية تدلهم على صدقك فافعل وإنما حسن حذف جواب الشرط لأنه معلوم عند السامع والمقصود من هذا أن يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعه عن إيمانهم ولا يتأذى بسبب إعراضهم عنه وعن الإيمان به ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏}‏ أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم إنما تركوا الإيمان وأعرضوا عنه وأقبلوا على الكفر بمشيئة الله تعالى ونافذ قضائه فيهم وأنه لو شاء لجمعهم على الهدى‏:‏ ‏{‏فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ يعني بأن لو شاء الله لجمعهم على الهدى وأنه يؤمن بك بعضهم دون بعض وقيل معناه لا يشتد تحسرك على تكذيبهم، إياك ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلَّط له الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ يعني المؤمنين الذين فتح الله أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويبغونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمع قلبه وهو قوله ‏{‏الموتى‏}‏ يعني الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون ‏{‏يبعثهم الله‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏ثم إليه يرجعون‏}‏ فيجزيهم بأعمالهم ‏{‏وقالوا‏}‏ يعني رؤساء كفار قريش ‏{‏لولا‏}‏ يعني هلا ‏{‏نزل عليه آية من ربه‏}‏ يعني الملك ليشهد لمحمد بالنبوة وقيل الآية المعجزة الباهرة كمثل معجزات الأنبياء ‏{‏قل‏}‏ يعني قل لهم يا محمد ‏{‏إن الله قادر على أن ينزل آية‏}‏ يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبوه وإنزال ما اقترحوه من الآيات والمعجزات الباهرات ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ يعني ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها وقيل معناه إنهم لا يعلمون أن الله قادر على إنزال الآيات وقيل إنهم لا يعلمون وجه المصلحة في إنزالها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم‏}‏ قال العلماء‏:‏ جميع ما خلق الله عز وجل لا يخرج عن هاتين الحالتين إما أن يدب على الأرض، أو يطير في الهواء، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير، لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء‏.‏ وإنما خص ما في الأرض بذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقاً لأن الاحتجاج بالشاهد أظهر وأولى مما لا يشهد وإنما ذكر الجناح في قوله بجناحيه للتوكيد كقولك كتبت بيدي ونظرت بعيني إلا أمم أمثالكم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها‏.‏ يريدون أن كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم كما يقال الإنس والناس ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي‏.‏

فإن قلت ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا فما وجه هذه المماثلة‏.‏

قلت‏:‏ اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقيل‏:‏ إن هذه الحيوانات تعرف الله وتوحده وتسبّحه وتصلي له كما أنكم تعرفون الله وتوحدونه وتسبحونه وتصلّون له‏.‏ وقيل‏:‏ إنها مخلوقة لله كما أنكم مخلوقون لله عز وجل وقيل إنها يفهم بعضها عن بعض ويألف بعضها بعضاً كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضاً ويفهم بعضهم عن بعض‏.‏ وقيل‏:‏ أمثالكم في طلب الرزق وتوقي المهالك ومعرفة الذكر والأنثى‏.‏

وقيل‏:‏ أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب حتى يقتص للجماء من القرنا وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ يعني في اللوح المحفوظ لأنه يشمل جميع أحوال المخلوقات وقيل إن المراد بالكتاب القرآن يعني أن القرآن مشتمل على جميع الأحوال‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربهم يحشرون‏}‏ يعني الدواب والطير قال ابن عباس‏:‏ حشرها موتها‏.‏ وقال أبو هريرة يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني تراباً ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاء القرناء»

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 43‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ كذبوا بحجج الله وأدلته على توحيده ‏{‏صم‏}‏ يعني عن سماع الحق ‏{‏وبكم‏}‏ يعني عن النطق به والمعنى أنهم في حال كفرهم وتكذيبهم كمن لا يسمع ولا يتكلم، ولهذا شبه الكفار بالموتى لأن الميت لا يسمع ولا يتكلم ‏{‏في الظلمات‏}‏ يعني في ظلمات الكفر، حائرين مترددين فيها لا يهتدون سبيلاً ‏{‏من يشأ الله يضلله‏}‏ يعني عن الإيمان ‏{‏ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم‏}‏ يعني ومن يشأ يجعله الله على دين الإسلام وفي هذا دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان به ومن أحب ضلالته تركه على كفره وهذا عدل منه لأنه تعالى هو الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين تركوا عبادة الله عز وجل وعبدوا غيره من الأصنام أخبروني تقول العرب أرأيتك بمعنى أخبرنا بحالك وأصله أرأيتم والكاف فيه للتأكيد‏:‏ ‏{‏إن أتاكم عذاب الله‏}‏ يعني قبل الموت مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من‏:‏ الغرق والخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب ‏{‏أو أتتكم الساعة‏}‏ يعني القيامة ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏ يعني في كشف العذاب عنكم ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ يعني في دعواكم‏.‏ ومعنى الآية أن الكفار كانوا إذا نزل بهم شدة وبلاء رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء وتركوا الأصنام فقيل لهم‏:‏ أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء ولا تعبدونه ولا تطيعونه في حال اليسر والرخاء‏؟‏ ‏{‏بل إياه تدعون‏}‏ يعني بل تدعون الله، ولا تدعون غيره في كشف ما نزل بكم ‏{‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏}‏ يعني فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة وإن كانت الأمور كلها بمشيئة الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنسون ما تشركون‏}‏ يعني‏:‏ وتتركون دعاء الأصنام التي تعبدونها فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع وقيل معناه أنكم في ترككم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها؛ وهذا معنى قول الحسن لأنه قال وتعرضون إعراض الناس لها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك‏}‏ في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك يا محمد رسلاً فخالفوهم وكفروا وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً عند السامع ‏{‏فأخذناهم بالبأساء‏}‏ يعني بالفقر الشديد وأصله من البؤس وهو الشدة والمكروه وقيل‏:‏ البأساء، شدة الجوع ‏{‏والضراء‏}‏ يعني الأمراض والأوجاع والزمانة ‏{‏لعلهم يتضرعون‏}‏ يعني يخضعون ويتوبون والتضرع التخشع والتذلل والانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة‏.‏ ومقصود الآية، أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل من قبله رسلاً إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالبأساء والضراء وهي الشدة في النفس والمال فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فلولا‏}‏ يعني فهلا ‏{‏إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ معناه نفي التضرع فلم يتضرعوا ‏{‏ولكن قست قلوبهم‏}‏ يعني ولكن غلظت قلوبهم فلم تضرع ولم تخشع بل أقاموا على كفرهم وتكذيبهم رسلهم ‏{‏وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون‏}‏ يعني من الكفر والتكذيب وتزيين الشيطان إغواؤه بما في المعصية من اللذة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد زين الشيطان الضلالة التي كانوا عليها فأصروا على معاصي الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ أي تركوا ما وعظوا به وقيل تركوا العمل بما أمرتهم به الرسل وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأن التارك للشيء معرضاً عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي ‏{‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ يعني بدلنا مكان البأساء والرخاء والسعة في الرزق والعيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام وذلك استدراج منه لهم‏.‏ وقيل‏:‏ فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الخير كان مغلقاً عنهم ‏{‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا‏}‏ يعني فرحوا بما أوتوا من السعة والرخاء والصحة في الأبدان والمعيشة وظنوا أن ما كان نزل بهم من الشدة لم يكن انتقاماً من الله تعالى فإنهم لما فتح الله عليهم ما فتح من الخير والسعة فرحوا به وظنوا أن ذلك باستحقاقهم وهذا فرح قارون بما أوتي من الدنيا ‏{‏أخذناهم بغتة‏}‏ يعني جاءهم عذابنا فجأة من حيث لا يشعرون قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة، وقال أهل المعاني‏:‏ إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف فى ضروب اللذة، فأخذناهم في آمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا إليهم ‏{‏فإذا هم مبلسون‏}‏ أى آيسون من كل خير، وقال الفراء المبلس اليائس المتقطع رجاءه ولذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون له جواب قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحزن والحسرة وقال أبو عبيدة المبلس النادم والحزين والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم روى عقب بن عامر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ الآية» ذكره البغويي بغير سند وأسند ه الطبري‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ أي آخرهم الذي يدبرهم‏.‏ يقال‏:‏ دبر فلان القوم، إذا كان آخرهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم تبق منهم باقية ‏{‏والحمد لله رب العالمين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم ومعنى هذا أن قطع دابرهم نعمة أنعم الله بها على الرسل الذين أرسلوا اليهم فكذبوهم فذكر الحمد تعليماً للرسل ولمن آمن بهم ليحمدوا الله على كفايتهم إياهم شر الذين ظلموا وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم، إذ أهلك المشركين المكذبين‏.‏ وقيل‏:‏ معناه الثناء الكامل والشكر الدائم لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم وإهلاك أعدائهم واستئصالهم العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 51‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين‏:‏ ‏{‏إن أخذ الله سمعكم‏}‏ يعني الذي تسمعون به فأصمكم حتى لا تسمعوا شيئاً ‏{‏وأبصاركم‏}‏ يعني وأخذ أبصاركم التي تبصرون بها فأعماكم حتى لا تبصروا شيئاً أصلاً ‏{‏وختم على قلوبكم‏}‏ يعني لا تفقهوا شيئاً أصلاً ولا تعرفوا شيئاً مما تعرفون من أمور الدنيا‏.‏ وإنما ذكر هذه الأعضاء الثلاثة، لأنها أشرف أعضاء الإنسان فإذا تعطلت هذه الأعضاء، اختل نظام الإنسان وفسد أمره وبطلت مصالحه في الدين والدنيا‏.‏ ومقصود هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن القادر على إيجاد هذه الأعضاء وأخذها هو الله تعالى المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من إله غير الله يأتيكم به‏}‏ يعني يأتيكم بما أخذ الله منكم لأن الضمير في به يعود على معنى الفعل ويجوز أن يعود على السمع الذي ذكر أولاً ويندرج تحته غيره ‏{‏انظر‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره أن انظر يا محمد ‏{‏كيف نصرف الآيات‏}‏ يعني كيف نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة ‏{‏ثم هم يصدفون‏}‏ يعني يعرضون عنها مكذبين لها ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة‏}‏ يعني فجأة ‏{‏أو جهرة‏}‏ يعني معاينة ترونه عند نزوله، وقال ابن عباس ليلاً أو نهاراً ‏{‏هل يهلك إلا القوم الظالمون‏}‏ يعني المشركين لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما نرسل المرسلين إلا بمشرين‏}‏ يعني لمن آمن بالثواب ‏{‏ومنذرين‏}‏ يعني لمن أقام على كفره بالعقاب والمعنى ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة ‏{‏فمن آمن وأصلح‏}‏ يعني آمن بهم وأصلح العمل لله ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ يعني حين يخاف أهل النار ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ أي إذا حزن غيرهم ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب‏}‏ يعني يصيبهم العذاب ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ يعني بسبب ما كانوا يكفرون ويخرجون عن الطاعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أقول لكم‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أقول لكم ‏{‏عندي خزائن الله‏}‏ نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره الله تعالى أن يقول لهم إنما بعثت بشيراً ونذيراً ولا أقول لكم عندي خزائن الله جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي والمعنى ليس عندي خزائن رزق الله فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولاً من الله فاطلب منه أن يوسع علينا عيشنا ويغني فقرنا فأخبر أن ذلك بيد الله لا بيدي ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ يعني فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل، وذلك أنهم قالوا له‏:‏ أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، فأجابهم بقوله‏:‏ ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون ‏{‏ولا أقول لكم إني ملك‏}‏ وذلك أنهم قالوا‏:‏ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء‏؟‏ فأجابهم بقوله‏:‏ ولا أقول لكم إني ملك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدون فلست أقول شيئاً من ذلك ولا أدّعيه فتنكرون قولي وتجحدون أمري‏.‏

وإنما نفي عن نفسه الشريفة هذه الأشياء تواضعاً لله تعالى واعترافاً له بالعبودية وأن لا يقترحوا عليه الآيات العظام ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏}‏ يعني ما أخبركم إلا بوحي من الله أنزله عليّ ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي وأنه لا يعلم الغيب فيخبر بما كان وما سيكون وأنه ليس بملك حتى يطلع على ما لا يطلع عليه البشر إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه عز وجل فما أخبر عنه من غيب بوحي الله إليه وظاهر الآية يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامره ونواهيه إنما كانت بوحي من الله إليه ‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير‏}‏ يعني‏:‏ المؤمن والكافر والضال والمهتدي والعالم والجاهل ‏{‏أفلا تتفكرون‏}‏ يعني أنهما لا يستويان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأنذر به‏}‏ يعني وخوف بالقرآن والإنذار إعلام مع تخويف ‏{‏الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يريد المؤمنين لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال‏.‏ وقيل‏:‏ معنى يخافون يعلمون والمراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم وإن كان إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الخلائق لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم الكفار لأنهم لا يعتقدون صحة ولذلك قال‏:‏ يخافون أن يحشروا إلى ربهم، وقيل‏:‏ المراد بالإنذار جمع الخلائق فيدخل فيه كل مؤمن معترف بالحشر وكل كافر منكر له لأنه ليس أحد إلا وهو يخاف الحشر سواء اعتقد وقوعه أو كان يشكّ فيه ولأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنذاره لجميع الخلق ‏{‏ليس لهم من دونه‏}‏ يعني من دون الله ‏{‏ولي‏}‏ أي قريب ينفعهم ‏{‏ولا شفيع‏}‏ يعني يشفع لهم ثم إن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم الكفار فلا إشكال فيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع‏}‏ وإن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم المؤمنون ففيه إشكال، لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمذنبين من أمته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ وإذا كانت الشفاعة بإذن الله صح قوله‏:‏ ‏{‏ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع‏}‏ يعني حتى يأذن الله لهم في الشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ يعني ما نهيتم عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ قال سلمان وخباب بن الأرت‏:‏ فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وهما من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع صهيب وبلال وعمار وخباب في نفر في ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله، حقّروهم فأتوه فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب صوف لها رائحة ليس عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أنا بطارد المؤمنين» قالوا‏:‏ فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً‏.‏ قال‏:‏ فأتى بالصحيفة ودعا علياً ليكتب‏.‏ قال‏:‏ ونحن قعود في ناحية إذا نزل جبريل عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ إلى قوله ‏{‏أليس الله بأعلم الشاكرين‏}‏ فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ الآية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد ذلك وندنو منه حتى كانت ركبنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يريد أن يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم وقال لنا «الحمد الله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات»‏.‏

وروي عن سعد بن أبي وقاص قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا‏.‏ قال‏:‏ وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هزيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ أخرجه مسلم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ قالوا له، يعني أشراف قريش، اجعل لنا يوماً ولهم يوماً‏.‏ قال‏:‏ لا أفعل‏.‏ قالوا‏:‏ فاجعل المجلس واحداً وأقبل علينا وولَِّ ظهرك إليهم‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قالت قريش لولا بلال وابن أم عبد يعني ابن مسعود لبايعناك فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ مر ملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا‏:‏ يا محمد رضيت بهؤلاء بدلاً من قومك هؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا أنحن نكون تبعاً لهؤلاء اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا وعسفاءنا، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به فقال عمر بن الخطاب‏:‏ لو فعلت ذلك حتى ننظر ماالذي يريدون وإلى ماذا يصيرون فأنزل الله عز وجل هذه الآية ‏{‏وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ فجاء عمر فاعتذر من مقالته‏.‏ قلت بين هذه الروايات الرواية الأولى التي عن سلمان وخباب بن الأرث فرق كثير وبعد عظيم، وهو أن إسلام سلمان كان بالمدينة، وكان إسلام المؤلفة قلوبهم بعد الفتح وسورة الأنعام مكية‏.‏ والصحيح ما روي عن ابن مسعود والكلبي وعكرمة في ذلك، ويعضده حديث مسعد بن أبي وقاص المخرج في صحيح مسلم من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد هؤلاء، يعني ضعفاء المسلمين، والله أعلم‏.‏

وأما معنى الآية فقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ يعني‏:‏ ولا تطرد هؤلاء الضعفاء ولا تبعدهم عن مجلسك لأجل ضعفهم وفقرهم‏.‏ ثم وصفهم فقال تعالى الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر‏.‏ ويروى عنه أن المراد منه الصلوات الخمس‏.‏ وإنما ذكر هذين الوقتين تنبيهاً على شرفهما ولأنهم مواظبون عليهما مع بقية الصلوات، ولأن الصلوات تشتمل على القراءة والدعاء والذكر فعبر بالدعاء عن الصلاة لهذا المعنى‏.‏ قال مجاهد‏:‏ صليت الصبح مع سعيد بن المسيب فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص فقال سعيد بن المسيب‏:‏ ما أسرع الناس إلى هذا المجلس‏؟‏ فقال مجاهد‏:‏ يتأولون قوله تعالى يدعون ربهم بالغداة والعشي قال أوفي هذا إنما هو في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن وقال ابن عباس إن ناساً من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناس من أشراف الناس نؤمن لك وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا، وقيل‏:‏ المراد منه حقيقة الدعاء والذكر والمعنى‏:‏ أنهم كانوا يذكرون ربهم ويدعونه طرفي النهار يريدون وجهه يعني يطلبون بعبادتهم وطاعتهم وجه الله مخلصين في عبادتهم له‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يطلبون ثواب الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ يعني لا تكلف أمرهم ولا يكلفون أمرك‏.‏

وقيل‏:‏ ما عليك حسابهم رزقهم فتملهم وتطردهم عنك ولا رزقك عليهم إنما الرازق لجميع الخلق هو الله تعالى فلا تطردهم عنك‏:‏ ‏{‏فتطردهم فتكون من الظالمين‏}‏ يعني بطردهم عنك وعن مجلسك‏.‏ فقوله‏:‏ فتطردهم، جواب النفي وهو قوله ما عليك من حسابهم من شيء وقوله‏:‏ فتكون من الظالمين، جواب النهي وهو قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما همَّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل الأشراف عاتبه الله على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك يقدح في العصمة وقوله فتطردهم فتكون من الظالمين والجواب عن هذا الاحتجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم ما طردهم ولا همَّ بطردهم، لأجل استخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه فأعلمه الله تعالى أن إدناء هؤلاء الفقراء أولى الهمِّ بطردهم فقربهم منه وأدناهم‏.‏ وأما قوله فتطردهم فتكون من الظالمين فإن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فيكون المعنى أن أولئك الفقراء الضعفاء يستحقون التعظيم والتقريب فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير موضعه فهو من باب ترك الألفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك فتنَّا بعضهم ببعض‏}‏ يعني وكذلك ابتلينا الغني بالفقير، والفقير بالغني، والشريف بالوضيع، والوضيع بالشريف فكل أحد مبتلى بضده فكان ابتلاء الأغنياء فالشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك فكان فتنة وابتلاء لهم، وأما فتنة الفقراء بالأغنياء، فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم فكان ذلك فتنة لهم ‏{‏ليقولوا‏}‏ يعني الأغنياء والشرفاء والرؤساء ‏{‏أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا‏}‏ يعني منَّ على الفقراء والضعفاء بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا اعتراض من الكفار على الله تعالى فأجابهم بقوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ يعني أنه تعالى أعلم بخلقه وبأحوالهم وأعلم بالشاكرين من الكافرين‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم‏}‏ قال عكرمة‏:‏ نزلت في الذين نهى الله نبيه عن طردهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام‏.‏

وقال عطاء‏:‏ نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم بن أبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد وقيل إن الآية على إطلاقها في كل مؤمن‏.‏ وقيل‏:‏ لما جاء عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته التي تقدمت في رواية عكرمة وقال‏:‏ ما أردت إلا الخير، نزلت وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ‏{‏كتب ربكم‏}‏ يعني فرض ربكم وقضى ربكم ‏{‏على نفسه الرحمة‏}‏ وهذا يفيد الوجوب وسبب هذا أنه تعالى يتصرف في عباده كيف يشاء وأراد فأوجب على نفسه الرحمة على سبيل الفضل والكرم لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين‏:‏ ‏{‏أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كل من عمل ذنباً أو خطيئة فهو بها جاهل واختلفوا في سبب هذا الجهل فقيل لأنه جاهل بمقدار ما استحقه من العقاب وما فاته من الثواب‏.‏ وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك السوء والفعل القبيح مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير فهو جاهل وقيل إنه لما فعل فعل الجهال نسب إلى الجهل وإن لم يكن جاهلاً‏:‏ ‏{‏ثم تاب من بعده‏}‏ يعني من بعد ارتكابه ذلك السوء ورجع عنه ‏{‏وأصلح‏}‏ يعني أصلح العمل في المستقبل، وقيل أخلص توبته وندم على فعله ‏{‏فأنه غفور‏}‏ يعني لمن تاب من ذنوبه ‏{‏رحيم‏}‏ بعباده قال خالد بن دينار كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال‏:‏ ‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏ الآية‏.‏ عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فلما قام علينا رسل الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ فسلم ثم قال ما كنتم تصنعون‏؟‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله كان قارئ لنا يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتلحقوا وبرزت وجوههم، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة عام» أخرجه أبو داود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات‏}‏ يعني وكما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد وإبطال ما هم عليه من الشرك كذلك نميز ونبين لك أدلة حججنا وبراهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل ‏{‏ولتستبين‏}‏ قرأ بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وليظهر لك الحق يا محمد ويتبين لك ‏{‏سبيل المجرمين‏}‏ يعني طريق هؤلاء المجرمين وقرأ بالياء على الغيبة ومعناه ليظهر ويتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا إلى النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ‏{‏إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله‏}‏ يعني نهيت أن أعبد الأصنام التي تعبدونها أنتم من دون الله وقيل تدعونها عند شدائدكم من دون الله لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى وإنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى وهو قوله تعالى ‏{‏قل لا أتبع أهواءكم‏}‏ يعني في عبادة الأصنام وطرد الفقراء ‏{‏قد ضللت‏}‏ يعني‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ عبدتها ‏{‏وما أنا من المهتدين‏}‏ يعني لو عبدتها ‏{‏قل‏}‏ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين ‏{‏إني على بينة من ربي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني على يقين من ربي، وقيل‏:‏ البيّنة الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل والمعنى‏:‏ إني على بيان وبصيرة في عبادة ربي ‏{‏وكذبتم به‏}‏ يعني وكذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي وهو القرآن والمعجزات الباهرات والبراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد وفساد الشرك ‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏ يعني العذاب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم وكانوا يستعجلون به استهزاء وكانوا يقولون‏:‏ يا محمد ائتنا بما تعدنا يعني من نزول العذاب، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم‏:‏ ما عندي ما تستعجلون به لأن إنزال العذاب لا يقدر عليه إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على تقديمه ولا تأخيره‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا يستعجلون بالآيات التي طلبوها واقترحوها فأعلم الله أن ذلك عنده ليس عند أحد من خلقه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يستعجلون بقيام الساعة ومنه قوله تعالى يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ يعني الحكم الذي يفصل به بين الحق والباطل والثواب للطائع والعقاب للعاصي أي ما الحكم المطلق إلا لله ليس معه حكم فهو يفصل بين المختلفين ويقضي بإنزال العذاب إذا شاء ‏{‏يقص الحق‏}‏ قرئ بالصاد المهملة‏.‏ ومعناه‏:‏ يقول الحق لأن كل ما أخبر به فهو وحق وقرئ يقض بالضاد المعجمة من القضاء يعني أنه تعالى يقضي القضاء الحق ‏{‏وهو خير الفاصلين‏}‏ يعني وهو خير من بين وفصل وميز بين المحق والمبطل لأنه لا يقع في حكمه وقضائه جور ولا حيف على أحد من خلقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قل لو أن عندي ما تستعجلون به‏}‏ يعني‏:‏ من إنزال العذاب‏.‏ والاستعجال، المطالبة بالشيء قبل وقته، فلذلك كانت العجلة مذمومة، والإسراع تقديم الشيء في وقته، فلذلك كانت السرعة محمودة‏.‏ والمعنى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب لو أن عندي ما تستعجلون به لم أمهلكم ساعة ولكن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقضي الأمر بيني وبينكم‏}‏ لا نفصل ما بيني وبينكم ولأتاكم ما تستعجلون به من العذاب ‏{‏والله أعلم بالظالمين‏}‏ يعني أنه أعلم بما يستحقون من العذاب والوقت الذي يستحثونه فيه وقيل علم أنه سيؤمن بعض من كان يستعجل بالعذاب فلذلك أخره عنهم قال والله أعلم بالظالمين وبأحوالهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ المفتاح الذي يفتح به المغلاق جمعه مفاتيح ويقال فيه تفتح بكسر الميم وجمعه مفاتح والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهي مفتح وجمعه مفاتح فقوله وعنده مفاتح الغيب يحتمل أن يكون المراد منه المفاتيح التي يفتح بها ويحتمل أن يكون المراد منه الخزائن‏.‏ فعلى التفسير الأولى فقد جعل للغيب مفاتيح على طرق الاستعارة، لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق، فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها، فهو عالم‏.‏ وكذلك ها هنا لأن الله تعالى لما كان عالماً بجميع المعلومات وما غاب منها وما لم يغب عن هذا المعنى بهذه العبارة‏.‏

وعلى التفسير الثاني، يكون المعنى وعنده خزائن الغيب والمراد منه القدرة الكاملة على كل الممكنات ثم اختلفت أقوال المفسرين في قوله وعنده مفاتح الغيب ‏{‏لا يعلمها إلا هو‏}‏ فقيل‏:‏ مفاتيح الغيب خمس وهي ما روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يجيء المطر»‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ «لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى الساعة إلا الله»، أخرجه البخاري‏.‏ وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ مفاتح الغيب‏:‏ خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب، وقال عطاء‏:‏ هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب‏.‏ وقيل‏:‏ هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون وقال ابن مسعود‏:‏ أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء إلا مفاتح الغيب‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق ‏{‏ويعلم ما في البر والبحر‏}‏ قال مجاهد‏:‏ البر المفاوز والقفاز، والبحر القُرى والأمصار لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه‏.‏ وقال جمهور المفسرين‏:‏ هو البر والبحر المعروفان، لأن جميع الأرض إما بر وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه ‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها‏}‏ يريد ساقطة وثابتة والمعنى أنه يعلم عدد ما يسقط من الورق وما بقي على الشجر من ذلك ويعلم كم انقلبت ظهراً لبطن إلى أن تسقط على الأرض ‏{‏ولا حبة في ظلمات الأرض‏}‏ قيل‏:‏ هو الحب المعروف يكون في بطن الأرض قبل أن ينبت‏.‏ وقيل‏:‏ هي الحبة التي في الصخرة التي في أسفل الأرضين ‏{‏ولا رطب ولا يابس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الرطب الماء واليابس البادية‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يريد ما ينبت وما لا ينبت‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالرطب الحي واليابس الميت‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن كل شيء لأن جميع الأشياء إما رطبة وإما يابسة‏.‏

فإن قلت إن جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله وعنده مفاتح الغيب فَلِمَ أفرد هذه الأشياء بالذكر وما فائدة ذلك‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ لما قال الله تعالى وعنده مفاتح الغيب على سبيل الإجمال ذكر من بعد ذلك الإجمال ما يدل على التفصيل، فذكر هذه الأشياء المحسوسة ليدل بها على غيرها، فقدم ذكر البر والبحر لما فيهما من العجائب والغرائب من المدن والقرى والمفاوز والجبال وكثرة ما فيها من المعادن والحيوان، وأصناف المخلوقات مما يعجز الوصف عن إدراكها، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أقل من ذلك وهو مشاهد لكل أحد لأن الورقة الساقطة والثابتة يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها وكيفية خلقها إلا الله تعالى ثم ذكر بعد ذلك ما هو أصغر من الورقة وهي الحبة‏.‏ ثم ذكر بعد ذلك مثالاً يجمع الكل وهو الرطب واليابس فذكر هذه الأشياء وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى فصارت هذه الأمثال منبهة على عظمة عظيمة وقدرة عالية وعلم واسع فسبحان العليم الخبير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما أن الكتاب المبين هو علم الله الذي لا يغير ولا يبدل‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالكتاب المبين، هو اللوح المحفوظ، لأن الله كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض‏.‏ وفائدة إحصاء الأشياء كلها في هذا الكتاب، لتقف الملائكة على إنفاذ علمه ونبه بذلك على تعظيم الحساب وأعلم عباده أنه لا يفوته شيء مما يصنعونه لأنه من أثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب في كتاب فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل‏}‏ يعني يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل ‏{‏ويعلم ما جرحتم‏}‏ ما كسبتم ‏{‏بالنهار ثم يبعثكم فيه‏}‏ أي يوقظكم فيه أي في النهار ‏{‏ليقضى أجل مسمى‏}‏ يعني أجل الحياة إلى الممات يريد استيفاء العمر على التمام ‏{‏ثم إليه مرجعكم‏}‏ في الآخرة ‏{‏ثم ينبئكم‏}‏ أي يخبركم ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ يعني وهو العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعلٍ عليه بالقهر والقدرة‏.‏ فهو كما يقال‏:‏ أمرُ فلانٍ فوقَ أمرِ فلانٍ، يعني‏:‏ أنه أقدر منه‏.‏ وأغلب هذا مذهب أهل التأويل في معنى لفظة فوق في قوله‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ وأما مذهب السلف‏.‏ فيها‏:‏ فإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا إطلاق على جهة والقاهر هو الغالب لغيره المذلل له والله تعالى هو القاهر لخلقه وقهر كل شيء بضده فقهر الحياة بالموت والإيجاد بالإعدام والغنى بالفقر والنور بالظلمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويرسل عليكم حفظة‏}‏ يعني أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم والمراد بالحفظة الملائكة الذي يحفظون أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وغير ذلك من الأقوال والأفعال قيل إن مع كل إنسان ملكين ملكاً عن يمينه وملكاً عن شماله فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر عليه لعله يتوب منها فإن لم يتب منها كتبها عليه صاحب الشمال‏.‏ وفائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان أنه إذا علم أن له حافظاً من الملائكة موكلاً به يحفظ عليه أقواله وأفعاله في صحائف تنشر له وتقرأ عليه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد كان ذلك زاجراً له عن فعل القبيح وترك المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله ويرسل عليكم حفظة، هم الملائكة الذين يحفظون بني آدم ويحفظون أجسادهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ حفظه يحفظون على ابن آدم رزقه وأجله وعمله ‏{‏حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا‏}‏ يعني أعوان ملك الموت الموكلين بقبض أرواح البشر‏.‏

فإن قلت قال الله تعالى في أية‏:‏ ‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم‏}‏ وقال هنا توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات‏؟‏ قلت وجه الجمع بين هذه الآيات أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه فحصل الجمع بين الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من قوله توفته رسلنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ جعلت الأرض لملك الموت مثل اطشت يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم وقال أيضاً‏:‏ ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأرواح إذا كثرت عليه يدعوها فتستجيب له وقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يفرطون‏}‏ يعني الرسل لا يقصرون فيما أمروا به ولا يضيعونه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق‏}‏ يعني ثم رد العباد بالموت إلى الله في الآخرة وإنما قال مولاهم الحق لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل والله مولاهم وسيدهم ومالكهم بالحق ‏{‏ألا له الحكم‏}‏ يعني لا حكم إلا له ‏{‏وهو أسرع الحاسبين‏}‏ يعني أنه تعالى أسرع من حسب لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر‏}‏ يعني يا محمد، قل لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام من دون الله من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه وتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق ومن ذا الذي ينجيكم من ظلمات البحر إذا ركبتم فيه فأخطأتم الطريق وأظلمت عليكم السبل فلم تهتدوا وقيل‏:‏ ظلمات البر والبحر مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال وقيل الحل على الحقيقة أولى‏.‏ فظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك فالمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيه إلا إلى الله سبحانه وتعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله‏:‏ ‏{‏تدعونه تضرعاً وخفية‏}‏ يعني فإذا اشتد بكم الأمر تخلصون له الدعاء تضرعاً منكم إليه واستكانة‏.‏ جهراً وخفية‏:‏ يعني سراً وحالاً ‏{‏لئن أنجانا من هذه‏}‏ قائلين في حال الدعاء والتضرع لئن أنجيتنا من هذه الظلمات وخلصتنا من الهلاك ‏{‏لنكونن من الشاكرين‏}‏ يعني لك على هذه النعمة والشكر وهو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏قل الله ينجيكم منها‏}‏ يعني من الظلمات والشدائد التي أنتم فيها ‏{‏ومن كل كرب‏}‏ يعني وهو الذي ينجيكم من كل كرب أيضاً والكرب هو الغم الشديد الذي يأخذ بالنفس ‏{‏ثم أنتم تشركون‏}‏ يريد أنهم يقرون بأن الذي أنجاهم من هذه الشدائد هو الله تعالى ثم إنهم بعد ذلك الإقرار يشركون معه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد لقومك إن الله هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط ‏{‏أو من تحت أرجلكم‏}‏ يعني الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ عذاباً من فوقكم، يعني أئمة السوء والسلاطين الظلمة أو من تحت أرجلكم يعني عبيد السوء‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ من فوقكم يعني من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم يعني السفلة ‏{‏أو يلبسكم شيعاً‏}‏ الشيع جمع شيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع وأصله من التشيع‏.‏ ومعنى الشيعة‏:‏ الذين يتبع بعضهم بعضاً‏:‏ وقيل‏:‏ الشيعة هم الذين يتقوى بهم الإنسان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ في قوله أو يلبسكم شيعاً يعني يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إنفاق فيجعلكم فرقاً مختلفين يقاتل بعضكم بعضاً وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ويذيق بعضكم بأس بعض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قوله أو يلبسكم شيعاً يعني الأهواء المختلفة ويذيق بعضكم بأس بعض يعني أنه يقتل بعضكم بيد بعض‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني أهواء متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن والاختلاف‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك بعضهم دماء بعض‏.‏ ثم اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية فقال قوم عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم نزلت هذه الآية‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ في قوله ‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ هن أربع وكلهن عذاب فجاءت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان وهما لا بد واقعتان يعني الخسف والمسخ‏.‏ وعن أبي بن كعب نحوه وهن أربع خلال وكلهن واقع قبل يوم القيامة مضت ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ في قوله من فوقكم أو من تحت أرجلكم لأمة محمد فأعفاهم منه أو يلبسكم شيعاً ما كان بينهم من الفتن والاختلاف زاد غيره ويذيق بعضكم بأس بعض يعني ما كان فيهم من القتل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏خ‏)‏ عن جابر قال لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون أو هذا أيسر» ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال‏:‏ «سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» عن خباب بن الأرت قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال‏:‏ «أجل إنها صلاة رغبة ورهبة إني سألت الله فيها ثلاثة فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا تهلك أمتي بسنة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» أخرجه الترمذي وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرف الآيات‏}‏ أي انظر يا محمد كيف نبين دلائلنا وحجتنا لهؤلاء المكذبين ‏{‏لعلهم يفقهون‏}‏ يعني يفهمون ويعتبرون فينزجروا ويرجعوا عما هم عليه من الكفر والتكذيب‏.‏